مقال

فنجان قهوة في أقدم مقاهي بنغازي

عند الحديث عن أي مدينة لا نستطيع أن ننسى الحديث عن المقهى الذي يمثل جزءاً مهماً من ثقافة المدينة، بمجموعة قيمها ومفاهيمها التي تتحكم في سلوكيات أهلها.

تعتبر المقاهي في ليبيا عموماً ومدينة بنغازي خصوصاً ذات طابع مميز لدى فئة كبيرة من المجمتع أصبح عندهم الذهاب إلى المقهى .. طقس يومي عتيد يعرفه كل الرجال منذ عشرات السنين، حتى اشتهر عند العديد بأنه البيت الثاني للرجل، فهو يقصده كل يوم دون كلل أو ملل، يجلس به لساعات طوال.

وكان من عادات أهل بنغازي وبشكل خاص رجالها شرب قهوة الصباح في إحدى المقاهي التي انتشرت في المدينة بعد أن أصبحت مركزاً تجارياً وحضارياً باعتبارها ثاني أكبر المدن الليبية، بعد توافد المهاجرين إليها من كل أصقاع ليبيا دون استثناء، مما زاد من الحاجة لمزيد من أماكن الاستراحة والترفيه.

والمقاهي بالإضافة إلى كونها تقدم للجالس فيها خدمات تنحصر بتقديم الشاي والقهوة وبعض المشروبات الأخرى، وبعض العصائر الاخرى، فإنها لعبت الدور الأساسي في الحياة السياسية والإجتماعية ،والثقافية في بنغازي، ليتحول المقهى إلى مرآة عاكسة للمجتمع وتعبير عن نبض الشارع واهتمامات الناس ومؤشر لتوجهاتهم.

أكتب موضوعي هذا وأنا في أحد أقدم مقاهي المدينة، وهو مقهى "تيكه" العتيق، أحتسي قهوتي وأشم عبق التاريخ في كل الأرجاء، أسمع قرقعة الفناجين وماكينة القهوة الإيطالية تعزف موسيقاها مع الأصوات المتناثرة هنا وهناك، وتزداد الأحاديث طرافة وتشويق وحدة وعناد، في بعض الأحيان عندما تكون تدور حول جلسات المؤتمر الوطني العام، وفي أحيان أخرى حول مباريات الدوري الأوروبي.

ومن على الكرسي أشاهد أجواء المدينة، والسيارات المارة، والناس التي تتجول هنا وهناك، لقضاء مصالحها، ومبنى البريد الرئيسي، الذي تم بناؤه في عام 1963 خافت الأضواء أمامي بعد أن كان في الماضي يضج بالحيوية والنشاط، وكشك الجرائد القديم لـ( سي مفتاح الحداد) الذي وضع في هذا المكان في الستينيات وظل مع كشك الطشاني، مكان تزود سكان بنغازي بالمعرفة، والذي أزيل في الثمانينات، في عهد القذافي، وبعد أسبوع مات صاحبه من الزعل والكمد حسرة عليه! وعلى يميني تقبع مكتبة قورينا التي تصارع وتتحدى الزمن! وأتذكر كيف كانت تلك المقاهي بأجوائها، من طاولات وكراسي تشدك إليها دون ملل أو ضجر، وروائح القهوة الزكية، ولكن واقع الحال يقول غير ذلك.

ومن أشهر مقاهي مدينة بنغازي، التي كانت تضم صفوة ونخبة المجتمع في ذلك الوقت، مقهى العرودي بميدان البلدية، الذي كان من أشهر رواده شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، الشاعر رجب الماجري، وهو ما كان يشكل صالوناً أدبياً ، بمعني أن المجتمعين كانوا يتدارسون فيه الأدب والثقافة .. وبالتالي يساهمون في تطوير ثقافة المدينة. 

وهناك مقهى الترهوني، الذي كان مفضلاً للشاعر على الفزاني، ومقهى سوق الحوت، حيث كان الشاعر المرحوم عبد ربه الغناي، يجلس فيه بانتظام، ومقهى العمال بشارع عمرو بن العاص، ومن أشهر رواده الأستاذ طالب الرويعي، والقاص المرحوم يوسف الدلنسي، والنقابي المرحوم رجب النيهوم، أما الأديب الراحل خليفة الفاخري، فكان دائم التردد على المقهى الرياضي في ميدان الشجرة، وعلى مقهى دمشق في شارع عمرو بن العاص. 

وكانت هناك مقاه شهيرة أخرى في مدينة بنغازي، مثل مقهى "سي عقيلة" بشارع نبوس بالقرب من المطبعة الحكومية، وحيث كان يجلس مجموعة كبيرة من الصحفيين والأدباء، منهم الأستاذ أبوبكر عمر الهوني، حسن مسعود عثمان، رشاد الهوني، والأستاذ محمد على الشويهدي، وبكر عويضه، وأيضاً المرحوم السنوسي الهوني، والأستاذ أحمد الحريري، والأستاذ محمد اوريث، والأستاذ أنيس السنفاز، والأستاذ عبد الرازق بوخيط.

إلى جانب مقاه أخرى مثل مقهى شمسة، ومقهى الترهوني، ومقهى بالتمر وجميع هذه المقاهي تقع بشارع عمرو بن العاص، هناك أيضاً مقاه بأقواس الفندق البلدي، ومقهى هلال، وأمامه مقهى الطرابلسي، ثم مقهى الحاج بريك بسينما هايتي، ومقهى المجذوب، وكذلك مقهى بوبكر بن قبلية بسوق الجريد، عند مدخل شارع بالة، ومقهى العبود بشارع بن شتوان وهو امتداد قصر حمد، ومقهى ستالين بشارع الشريف، هناك أيضاً مقاه مثل مقهى نجمي على الكورنيش، ومقهى ميدان الحدادة، ومقهى تيكة أمام البريد الرئيسي، ومقهى أكرم في شارع عمر المختار، وهناك كان يتردد، الناقد حسين مخلوف، والأديب محمد وريث.

وفي منطقة البركة، مثل مقهى بن غزي، وفي سيدي حسين، مثل مقهى بوزغبية، ومقهى الوحدة العربية (مقهى علي الشومالي)، الأمازيغي الناصري في شارع قزير، ومقهى علي العربي بجانب مصرف الوحدة، ومقهى البحارة بشارع فيا تورينو، ومقهى التونسي بشارع مصراتة.

ويدورحديثنا هذه المرة عن مقهى تيكه ،الذي يقع مقابل "البريد الرئيسي" وهو يعتبر من أقدم مقاهي المدينة، والذي فتح أبوابه لأول مرة في عام 1948 بإدارة الحاج مفتاح حسن تيكه، الذي استأجر المكان من السيد مبارك السوسي، والحاج مفتاح عمل كسفرجي في الديوان الملكي حيث يتم استدعائه عند الاحتفالات الرسمية التي تقام هناك، وقد أشرف بنفسه على إدارة المقهى حتى عام 1992، وتوقف لمرضه حتى توفى عام 1996، وتناوب على العمل في المقهى كل من سالم التاورغي، وفضيل الحضيري، وعامل مصري اسمه السيد، خلفه مصري آخر اسمه مسعود، وفي أثناء العطلات الصيفية، كان إدارة المقهى تذهب في أحيان كثيرة للحاج المهدي تيكه شقيق الحاج مفتاح.

ويحكي احميده علي تيكه، ابن صاحب المقهى، فيقول: يظن الناس أن المقهى الشعبي قد انتهى، وهذا خطأ، فلا يزال المقهى الشعبي يحظى بإقبال كبير، حيث يقوم بخدمة زبائنه منذ افتتاحه وحتى الآن، بكراسيه وطاولاته المنتشرة أمام المقهى وتحت أقواس شارع عمر المختار، حتى عام 1976، حيث أمرت سلطات الأمن (المباحث العامة) بمنع وضع الطاولات والكراسي خارج المحل، لأسباب سياسية منعاً للتجمع، وانتقاد النظام خاصة بعد أحداث الطلبة في عام 1976، ولم يعود الحال إلا بعد انبلاج ثورة 17 فبراير 2011، وقفل المقهى عام 1983 لمدة عامين، مثله مثل غيره من المقاهي، بعد تجميد النشاط التجاري في البلاد، وهو أحد القرارات الغريبة لنظام القذافي.

ويتابع احميده علي حكايته فيقول: على مقاعد المقهى جلس الكتاب، والشعراء والرياضيين، منهم على سبيل المثال: الدكتور عبد الواحد خليل، محمد علي البسيوني، السيد بومدين، صالح السنوسي، عمر الككلي وعلي الرحيبي وعبدالسلام شهاب، أحمد الفيتوري، محمد الأصفر، محمد المسلاتي، والصحفي الرياضي عبد المجيد الفيل، وزين الدين بركان، والمخرج مفتاح بادي، ولاعب الكرة مصطفى الشطيطي، والمدرب عثمان زغبية، والرياضي فتحي سويري، ومدرب الأهلي البنغازي، الإنجليزي طومسون، ومدربين من تونس والجزائر والمغرب، واللاعبين، عمر القزيري وعلي مرسال وعلي الميار، وأحمد الفلاح ورمضان اشبير، ومن الأجانب كان يتردد عليه بصورة منتظمة، البحارة اليونانيين الذين كانوا يرقعون شباكهم عند مدخل ميناء بنغازي، يتمتعون جميعهم بشرب القهوة العربية على الفحم في بداية الأمر، حتى عام 1963، وبعد فتح البريد الرئيسي وزيادة الطلبات، جلب الحاج مفتاح، ماكينة ايطالية لصنع القهوة والكاباتشينو والاسبريسو. 

كما يتردد على القهوة، الموظفين والمخبرين والعاطلين والمتقاعدين، يتناقشون في كل المواضيع من الرياضة إلى السياسة، يحتسون القهوة العربية، التي تحتل حصة الأسد من طلبات الزبائن في المقاهي الشعبية، أخبرنا أحدهم أنه حتى لو شرب قهوته في منزله، إلا أن ارتشافها في "مقهى تيكه" لها طعم مختلف بينما يأتي طلب الشاي وباقي المشروبات في المقام الثاني.

ويضيف احميده تيكه، ويروي نوادر وحكايات القهوة قبل وبعد ثورة 17 فبراير، فيقول أنه في أحد أعوام التسعينيات حضر إلى المقهى أحد الزبائن المعروفين، بعملهم في جهاز الأمن الداخلي، ومعه صورة كبيرة لحاكم ليبيا السابق (القذافي) داخل برواز جاهز، وقام بتعليق الصورة في أحد أركان المقهى مما أثار سخط واستهجان الزبائن، الذين كانوا يجتمعون عادة في أقصى ركن في المقهى، ويتحدثون بصوت خفي في أمور البلاد، وبمجرد دخول أحد المخبرين، يتغير مسار الحديث لينتقل إلى أمور الكورة، وكان كود تغيير المسار هو كلمة (شنو صار في فريق الأهلي أمس)، واستمر الحال على ما هو عليه، لأنه في ذلك الوقت لم يستطع أحد معارضة الأمر بشكل واضح!!

ومن النوادر التي يحكيها احميده علي .. أن فرقة من الحرس البلدي مع رجال الأمن السري، حضروا إلى المقهى في أغسطس 2010 أي قبل موعد الاحتفال بانقلاب سبتمبر، عند الساعة العاشرة صباحاً، والزبائن جالسين على المقهى، طلبوا منه إخراج الزبائن وإقفال المحل لساعات من أجل طلائه باللون الاخضر، مشاركة في الاحتفال!!.

أما المقهى بعد اندلاع ثورة 17 فبراير وبسبب قربه من ساحة التحرير، فقد شهد رواجاً من الزبائن الذين كانوا يتابعون الأحداث، وكذلك شهد تجمع عدد كبير من الإعلاميين والصحفيين الأجانب الذين حضروا من كل مكان لمتابعة الأحداث عن قرب، وتناول المشروبات الباردة والساخنة ومن بين هؤلاء مراسلين قنوات عربية مثل الجزيرة والعربية والتلفزيون المصري، وقناة 24 فرنسا، بي بي سي، ومحطات أمريكية وأوروبية مشهورة. 

وبعد ان انتهيت من الحديث مع صاحب المقهى، توقفت الذاكرة، وتوقفت الكتابة وتوقف التدوين، فالساعة التي أمامي، تشير إلى الساعة الواحدة ظهراً، وهو موعد قفل المقهى، وتعلن عن قرب مغادرتي المكان، لملمت أوراقي وتفقدت أشيائي، وغادرت وأنا أودع مبتسماً صاحب المقهى، ورواده، على أن نلتقي في وقت آخر، أطفئت الأنوار في المقهي، استعداداً لقفل أبوابه، ولكنه سيعاود فتحه من جديد بعد العصر، فالمقاهي في هذه المدينة لا تصد أبوابها، عن روادها وعن كتابها وفنانيها وناسها ومواطنيها.

إنها دعوة للإهتمام بتاريخ المقاهي في بنغازي وتوثيقها، خدمة لتراث هذه الأمة، لتعود للقيام بدورها الثقافي، المتمثل في هذا التجمع العفوي اليومي، المدينة التي يعاني مثقفوها وأدبائها من قلة توفر المقاهي الأدبية، أو ما يقوم مقامها وباعتبار أن المقهى يمثل ملتقى يومي دائم لهم، ملتقي الإبداع والثقافة والفن والسياسة والناس والشعوب، طالما هناك من يرعاها ويحافظ عليها، ويعتبرها إرثاً ثقافياً وأدبياً شأنها شأن أي موروث تحتويه المدينة، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، معرفاً بتاريخ المدينة وتاريخ مبدعيها. 

بقلم: عبد السلام الزغيبي