
زمن الإحتلال الإيطالى .. في مقدمة الصحافيين الوطنيين يبرز اسم المواطن .. عوض بونخيلة بوضوح، إنه أول مؤسس ليبي لصحيفة عربية في بنغازي عام 1920 التي صدرت في بضعة أعداد بعنوان (الوطن) .. الوطن حباً وعشقاً له .. وارتباطاً وانتماء عميقين إليه .. الوطن .. ولا شيء غير ذلك في وقت صعب وظروف حالكة ومريرة.
كان بونخيلة يقطر وطنية، يتدفق بالكامل بها، كان مقر صحيفته يقع فى ميدان سوق سيدي علي الوحيشي في بنغازي الصغيرة .. نهاية شارع عثمان بحيح، فى مكتب بسيط تتوهج منه الأفكار وتنطلق باتساع الوطن كله .. ليبيا، ونشر فيها بالقدر المتاح مقالات وأخبار وقصائد، وكانت ترويستها تشير إلى أنها صحيفة سياسية اقتصادية، وقد اضطهد بسببها مرات عديدة فالتجأ إلى التجارة مكرهاً .. وهو المثقف الصحفي الوطني النبيل!!
ولد (عوض فؤاد) رجب بونخيلة في بنغازي عام 1898 وهو شقيق الشاعر عبدالرحمن بونخيلة ووالدتهما السيدة حلوم جعودة شقيقة الشاعر المناضل الشهيد أبوبكر جعودة، وتحصل عوض في بداية صباه على تعليم وثقافة في المدارس التركية بالمدينة ثم شاهد بعينيه مدافع الطليان تقصف مدينته وتروع أهلها وتحتل وطنه مع أواخر عام 1911.
هذا الإحتلال البغيض كون فىي نفسه الشابة التواقة إلى الحرية ميلاً عظيماً إلى المواجهة ورفض الغاصب الدخيل فانضوى وهو الشاب المثقف في تنظيم سري جمعه مع رفاق آخرين من جيله .. من أبناء بنغازي وهم .. عمر فخري المحيشي والمهدي الكيخيا وأحمد مخلوف وأبوبكر جعودة وساسي بن شتوان .. لمقارعة العدو بالكلمة وتحريك الصفوف والمقاطعة وفقاً للإمكانات الموجودة وكانت في أغلبها قوامها الوطنية فقط لا غير!
كانوا جميعاً يتقدون وطنية .. وحماسة، فلاحقهم المحتل واحداً واحداً، الكيخيا ذهب إلى مصر وكذا مخلوف وجعودة إلى الشام والعراق وبن شتوان إلى تركيا فيما ظل المحيشي في بنغازي وشرع في ليبيا المصورة وبذكاء وطني ظل يدس عبرها السم في العسل للطليان، وتوجه بونخيلة إلى تركيا متظاهراً بالأعمال التي تتصل بالتجارة وهو أمر لم يجد فيه نفسه على الإطلاق.
وهناك عبر الأناضول والبسفور يلتقي بمواطنين من بلاده فرقهم العدو وجمعتهم الغربة والحنين .. من طرابلس والخمس ومصراتة وبنغازي ودرنة وغيرها من المدن، هناك يوالي نشاطه الوطني الذي لا يهدأ .. ينشر مقالاته في الصحف الصادرة في تركيا وخارجها أيضاً عن قضية وطنه .. معرفاً بها وصارخاً في وجه الظلم الذي يغطي الوطن الجميل كقطعة ليل .. ومقاتلاً بالحرف والكلمة الصادقه عن أبنائه.
هذا النشاط الوطني المنقطع النظير في بلاد الترك لم يرتح له الطليان، كانت الأخبار والتقارير والوشايات تصل إلى من يهمه الأمر فحكموا عليه غيابياً بالإعدام وظل يعاني من المطاردة والملاحقة والترصد في تلك البلاد زمناً طويلاً.
يقول في إحدى رسائله التي بعث بها إلى أحد أخواله في بنغازي السيد علي جعودة أواخر عام 1959 .. (إني عشت في بلاد الأتراك ما يقارب ثمانية وثلاثين عاماً لم أتعلم خلالها الكذب والمماطلة وخلف الوعد ولم أرها ولم أتقابل بها قطعياً في المحافل والدوائر التركية، رسمية كانت أو غير رسمية وقد قدمت إلى هذه البلاد وحيداً فريداً وبسعيي الذاتي تمكنت من أن أكون دائماً من الشخصيات المحترمة بين الناس، هذا رغماً من أني غريب وعربي! في بلاد أقمت بها غريباً فريداً وليس لىي بها أحد غير الله تعالى).
عزة نفس وكبرياء، قل نظيرها إلا لدى من هم مثله من الرجال في زمن الرجال، وقد عمل على إعداد كتب في الأمور السياسية وسياسات الإستعمار في الشرق العربي وخطط الصهيونية وعن (الحرب العالمية الثالثه!) التي أكد ضرورة وقوعها وأسبابها.
كان بونخيلة قد تعرف أيضاً على الشهيد عمر المختار قبل أن يؤسس دور المقاومة الوطنية فة الجبل، كان المختار يأتي إلى بنغازي ليجمع الأعشار والمساعدات للمجاهدين في أدوار خولان ومراوة واجدابيا، وكانت له علاقات وصداقات مع الكثير من أعيانها .. الحاج يوسف لنقي .. وأسرة الجهمي .. وغيرهما، والتقاه بونخيلة واجتمع به في تلك الفترة وكتب مقالة نادرة عنوانها (كيف تعرفت بعمر المختار شخصياً).
تاريخ مضيء من النضال لرجال بنغازي وأهلها .. وليبيا بالكامل كانت تغمر الأفق وتملؤه بالفخر .. ولكن حسابات البيدر لا تنطبق على حسابات الحقل كما يقول عرب الشام، هناك فرق بين زمان (وتوا)! وتقديراً لهذه الصحيفة ودورها الوطني رغم صدورها القصير وتوقفها بالمصادرة من الطليان .. أعادت جمعية عمر المختار إصدار صحيفتها بالاسم نفسه في بنغازي عام 1943.
ظل بونخيلة وحيداً في تركيا، يقيم في أضنه ويعيش على ذكرياته الوطنية ويتمسك بموقفه وعزة نفسه وبين حين وآخر يزور بنغازي وكانت المرة الأخيرة عام 1958 وحضر فيها تشييع جنازة صديقه .. الشخصية الوطنية فتحي عمر الكيخيا.
هذا الصحفى المهاجر .. تاريخ ينبغي أن يدرس ويشار إليه بكل فخر ولا بد من تظافر الجهود للبحث عن تراثه ومخطوطاته في مظانها البعيدة عنا والأجمل من ذلك أن نعيد رفاته ورفاة الكثير من رجال الوطن ليضمهم ثراه الذي أحبوه وأخلصوا له، توفي بونخيلة في أضنه بتركيا ودفن بها أواخر شهر نوفمبر 1960.
المصدر: سالم الكبتي