مقال

أيامٌ في الشرق

تهبط الطائرة في مطار الأبرق، الإمكانيات المادية والبشرية متواضعة لا تكاد تفي بمتطلبات المغادرة والوصول، في الإنتظار سيارات الأجرة، حيث العديد يعرضون النقل إلى المرج وبنغازي واجدابيا وطبرق، ولا تجد ذكراً لدرنة.

تتحول الرحلة نحو بنغازي إلى البر، الطريق معروف بالكثرة المفرطة للمطبات، وإن كانت أقل الآن مما كانت عليه منذ عام، تمرّ السيارة بنقاطٍ عسكرية حيث يتفحص الجنود الوجوه داخل السيارات ويشيرون – في حالتنا – بالإستمرار، باحترام وأدب من دون استثناء.

يلفت النظر في المدخل الشرقي لبنغازي المحلات والمراكز التجارية التي أُنشئت خلال سنتيْ الحرب الماضيتين، وتدخل المدينة لتجد شوارعها مزدحمة بحركة لم تعهدها من قبل، نتائج جهد النظافة واضحة، وإن بقي هامش النظافة المثلى واسعاً، يتحدث الناس عن جهد كبير مبذول في إزالة المباني والأكشاك العشوائية، وفي جمع القمامة وإزالة الركام من الشوارع، تشجيع البلدية تضمّن دفع مقابل مالي للأفراد الذين يشاركون في النقل بشاحناتهم الخاصة.

لم تنقطع الكهرباء حيثما توجهتُ خلال تلك الأيام، ولم أشاهد ازدحاماً على محطات البنزين في أي وقت، كان هناك نقص في غاز الطهي جعل صديقاً لي يتنقل في أنحاء المدينة ويتوجه خارجها بحثاً عن أسطوانة غاز على مدى يومين من دون نجاح، المحلات التجارية عامرة بالسلع وإن ارتفعت الأصوات بالشكوى من إرتفاع أسعارها، ومن رداءة الإتصالات الهاتفية ومن بطء سلحفاة الإنترنت متى حضرت، والإزدحام على المصارف من دون جدوى في أغلب محاولات السحب.

الدمار المادي شديد في أحياء معينة من المدينة، ويتركز في واجهات الشوارع الرئيسية منها، والمؤكد أنه أشد ما يكون في منطقتي الصابري وسوق الحوت الباقيتين ساحةً للإشتباكات المتقطعة والقناصين.

في كل بيت في بنغازي قصة أو قصص عمّا مرّ بأهله خلال سنتي الحرب منتقلين بالذاكرة إلى ما مرّ بهم في فترة ما قبل الحرب من اغتيالاتٍ وتفجيراتٍ وغيابٍ للأمن وكل أشكال سلطة الدولة بما فيها من جيشٍ وشرطة وأجهزة أمنية وقضاء.

عبد السلام المسماري وتوفيق بن سعود ومفتاح بوزيد وسلوى بوقعيقيص أربعة أسماء من مئاتٍ غيرهم لقوا حتفهم في تلك الفترة العصيبة، وبالتدريج أتمّ الجيش والقوى المساندة له تأمين الغالبية العظمى من أحياء المدينة، وكان الشّق المتعلق بإزالة الألغام والأفخاخ في الشوارع وداخل المنازل جزءاً شاقاً ومكلفاً في أرواح الأبرياء وزمن النزوح.

رغم فقد الأحبة وعناء النزوح بالنسبة للكثيرين، تدبُّ الحياة الطبيعية في جسد المدينة من جديد، المقاهي والمحلات التجارية تزدحم بمرتاديها، عاد الطلبة إلى مدارسهم واستأنفت الجامعة نشاطها خارج مقرها، وجدت محامياً من أقاربي سعيداً بعودة المحاكم بما يشمل قضايا الجنايات، زرت سوق بيع السمك في جليانة وقد انتقل إلى مبانٍ وأكشاك متواضعة غير بعيدة عن مقره السابق، كان البائع خريجاً من كلية الآداب جغرافيا؛ يبيع ورفاقه السمك وينظفونه ويطبخون حسب الطلب … شواء، قلي، حرايمي، فاصوليا بالكالاماري! الشرطة – والشرطة النسائية ـ والجيش يتواجدون في الشوارع بشكلٍ واضح، ويجري الحديث عن عودة الأجهزة الأمنية المختلفة.

بنغازي، رغم ما مرّ بها من إرهابٍ وحربٍ شرسة، تخرج منتصرةً مفعمةً بالأمل وحب الحياة، مدينةً بالفضل لرجال الجيش وشبابها، إنها على وشك الخروج من النفق، وما تبقَى منه يراه البناغزة مؤدّياً إلى الأفضل، فقد اخترقه ضوء الأمل، الكيلومتر الأخير لن يكون سهلاً، فالمتربّصون حول بنغازي من ليبيين وغرباء كثُر، لا ينقصهم مالٌ أو سلاحٌ ولا تعوزهم الحيلة.

حفظ الله ليبيا وطناً موحداً آمناً لكلِّ ابنائه.

بقلم: نور الدين السيد الثلثي