
بعد حربها الطاحنة، ودمار مدنها وانهيار دولتها المتداعية وتصدّع نسيجها الاجتماعي، كان على ليبيا أن تقف على جبل ديناميت بإمكان أي كان أن يلقي بعقب سيجارته فيه من دون اكثرات ويحيل البلاد رماداً تذروه الريح.
20 مليون قطعة سلاح تنتشر عبر قرى ليبيا ومدنها، تتنوع بين ثقيل ومتوسط وخفيف، المدافع والدبابات وحتى الطائرات تتوزع بين أمزجة وأهواء وأيديولوجيات وقبائل مختلفة، تشيع بينها التوتر والخوف والاحتقان ليتواصل عبث الخراب.
ويعتبر علي الوكواك الذي يعيش ويعمل في مدينة بنغازي، وعاش فترة الثورة والحرب من دون التوقف عن العمل على رغم الظروف، من أهم فناني ليبيا المغامرين والمجددين في السنوات الاخيرة.
كان الوكواك قد عُرف منذ سنوات كفنان يصنع الأيقونات والمنحوتات ذات الطابع والأسلوب الأفريقيين، ويستهدف بها السياح الأجانب الذين يحبون هذه الأعمال، احترف هذه المهنة في اليونان منذ سنوات بعيدة، وكانت تجربته مختلفة عن تجارب الفنانين الليبيين، لأنه اعتمد على الفن مصدر رزق على عكس غالبية زملائه.
استخدم الخشب مادة لمنحوتاته، فصنع منه الأقنعة والأيقونات التي تبدو أعمالاً أفريقية بدائية، وأعطاها روحاً أخرى غير تلك التي عرفت بها الأعمال الافريقية، ما جعله يحقق بعض النجاحات.
بعد الحرب انتقل إلى أساليب أخرى ومواد خام جديدة، فقدم لنا الحرب والسلام والعذابات الانسانية، وتحولت أعماله إلى أعمال إنسانية لفتت أنظار العالم إلى تجربته الغنية، وتجلى ذلك في الإحتفاء الكبير بما قدّمه في روما.
واستطاع الوكواك وعبر أعماله بعد الحرب الليبية، أن يقدم رؤى إنسانية عميقة، ليس عن ليبيا والحرب فحسب، بل عن الحرب والسلام وعن الحياة والموت للإنسان أينما كان، بدل الخشب وجد الفنان الليبي ضالته في الحديد بكل قوته وصلفه كمادة خام لصَوغ معاناة انسانية قاسية وتحديداً في الخردة التي تشكل في ليبيا مشكلة كبيرة بعد الحرب، فغالبيتها خردة أسلحة دمرت أثناء المواجهات.
لجأ بيكاسو اثناء الحرب العالمية الثانية إلى الخردة أيضاً وأنتج لنا "عنزته" الشهيرة من بقايا دراجة هوائية … الوكواك وبعد الحرب الليبية فكك الأسلحة الخردة منتجاً منها أعمالاً كـ "سيزيف الليبي" وهو يجر كرته الحديد، وسجين يحطّم قيوده، وقادة عسكريين وأيضاً راقصين وموسيقيين، في تناغم جميل ولافت بين الحرب والسلام والعذاب والمتعة، مقدّماً دراما الوجود الانساني، ودراما الموت والولادة.
تجربة الوكواك قفزت بها الثورة والحرب إلى فضاءات إنسانية أرحب أنتجتها المادة الخام، فكان من الممكن أن ينتج رسائل بالخشب كما كان يفعل، ولكن الحديد بكل دلالات القسوة والعنف التي ظل يحملها كمعدن استخدم للقتل والسيطرة، مكّن الوكواك أكثر من إيصال رسائله بعمق، وقد أثبتت تجربته أن المواد الخام هي شريك مهم في عملية الإبداع، واختيار الفنان لها يعد أول خطوة في اتجاه النجاح أو الفشل، ولعله أبدع في استيلاد السلام من رحم الحديد، مقدماً عبر ذلك أهم رسائله الفنية والاجتماعية.
بقلم: منصور بوشناف