
من علامات ليبيا البارزة خلال العقود الماضية، فنان وإعلامي طالما كان صوته بليغاً دون عناء ومطرباً دون غناء وكان حضوره متميزاً على خشبة المسرح وأمام كاميرا السينما، هو عبدالفتاح الوسيع الذي توفي عن عمر ناهز 83 عاماً.
ولد الوسيع بمدينة بنغازي في العام 1938 قبل أن تنتقل أسرته إلى منطقة توكرة، حيث تلقى تعليمه الأول في مدارسها، وبعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة في تخصّص اللغة العربية بشهادة تفوق أكمل دراسته بالجامعة الليبية ببنغازي، حيث أسّس المسرح الجامعي وقدّم من خلاله العديد من الحفلات الموسيقية والمنوعات وبعض الاسكتشات الفكاهية والمسرحيات ذات الفصل الواحد، وفي العام 1963 تحصل على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية.
عمل الوسيع في مرحلة أولى مترجماً للغة الإنجليزية في نظارة المالية، ولكن حبه للفن تغلب عليه، فانضم إلى المسرح القومي (الوطني حالياً) بعد امتحان نال خلاله المرتبة الأولى، ومن هناك انتسب للفرقة العالمية للمسرح "إي.تي.جي" التي قدّمت أغلب أعمال شكسبير ويوجو بيتي وشيلاق ديلاني وأوسكار وايلد وغيرهم، وعمل معها ممثلاً ومخرجاً وفنياً في بعض الأحيان، وشارك بالتمثيل في مسرحيتي "زيارة السيدة العجوز" و"القاعدة والاستثناء" اللتين عرضتا على خشبة مسرح الجمهورية بالقاهرة ولقيتا نجاحاً كبيراً هناك.
والتحق بالعمل كمتعاون في الإذاعة الليبية وقدّم وأخرج العديد من البرامج حتى العام 1967 تاريخ انتقاله إلى الإذاعة بشكل رسمي، ومنها تم إرساله في بعثة إلى هيئة الإذاعة البريطانية بلندن لدراسة فنون الدراما التلفزيونية، حيث حصل على دبلوم في الإخراج والإنتاج، وبعد عودته من البعثة كلف الوسيع بالرقابة على برامج التلفزيون بالقناة الخامسة ببنغازي والتي كانت ضمن قنوات التلفزيون الليبي عند تأسيسه في الرابع والعشرين من ديسمبر 1968 بمناسبة الذكرى السابعة عشرة للاستقلال، والتي كانت تبث برامج موحدة، ثم عمل نائباً لمدير التلفزيون.
أُعير الوسيع للعمل كقارئ أخبار ومقدّم برامج بالقسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، وبعودته، رشّح للعمل كعضو منتدب في مجلس إدارة الشركة المنتجة لشريط "الرسالة" والتي كان يديرها مخرج الفيلم مصطفى العقاد إلى جانب أعضاء آخرين من الكويت والمغرب، وبعد توقف التصوير الذي حضر جميع مراحله بالمغرب عاد إلى ليبيا، حيث شارك في التحضير لاستكمال التصوير في عدد من المناطق، ولعب دور زعيم الأنصار من الخزرج سعد بن عبادة.
وفي فيلم "عمر المختار" يبدو صوت الوسيع الجهوري حاضراً بقوة في مقدّمة وخاتمة الأحداث واضعاً إياها في إطارها التاريخي والاجتماعي.
وكلف الوسيع لاحقاً بإدارة فرع إدارة الفنون والأدب في بنغازي والتي تتكوّن من قسم المسرح والفنون الشعبية والتأليف والترجمة والفنون التشكيلة، وبالإضافة إلى عمله الإداري، تخصّص في التعليق على الأشرطة الوثائقية منها وثائقيات الحرب العالمية الأولى ووثائقيات الحرب العالمية الثانية ووثائقيات "العالم في حرب" وبعض البرامج الموسيقية العالمية وسلسلة من الأشرطة الوثائقية عن "العالم حي" وغيرها.
وقدّم حوالي خمسين شريطاً وثائقياً عن التاريخ والسياسة ونضالات الشعوب وتجاربها أشرفت عليها إدارة التوجيه المعنوي والتابعة للقوات المسلحة تحت عنوان "الشعب المسلح"، وهو عن فكرة للأديب والمفكر الراحل الصادق النيهوم ومن إخراج فتحي العريبي، كما قدّم برنامجاً مرئياً تحت عنوان "كي لا ننسى"، وهو عبارة عن أشرطة تصوّر كفاح الشعوب، وقدّم أيضاً برنامجاً دينياً تحت عنوان "دروب النور" بالمشاركة مع الفنان السوري عبدالرحمن آل رشي.
ويقول الإعلامي والكاتب سالم الفيتوري عن الراحل "قامة أخرى ترحل عن دنيانا في صمت بعد أن كان إبداعها حديث القاصي والداني، رحل الأستاذ عبدالفتاح سالم الوسيع الفنان الشامل ممثلاً، مخرجاً، إذاعياً، وإعلامياً فذاً تفرّد في إبداعه، لقد كان مدرسة خاصة في الإلقاء والحضور الصوتي المميز، وقد ترك بصمة خالدة لا تُمحى بكل ما قدّمه في المجالات كافة”.
ويضيف الفيتوري "شخصياً كنتُ محظوظاً بمعاصرته لأكثر من خمسة عشر عاماً، وقد أتاح لي فرصة مشاركته في بعض برامجه المسموعة ولو بأسطر قليلة، ممّا شكّل دعماً معنوياً كبيراً في مسيرتي الإذاعية، ولا أذيع سراً إذا قلت إنني تعلمت منه الكثير في فن الإلقاء والتعامل مع النصوص المختلفة، وتوظيف طبقات الصوت حسب نوعية تلك النصوص"، مردفاً "برحيل الوسيع فقدنا قامة فريدة شكلت ظاهرة فنية لأكثر من أربعين عاماً من العطاء المتميز والإبداع المتفرد، ممثلاً للمسرح والإذاعة والتلفزيون، ومذيعاً قارئاً للأخبار بحرفية عالية ما مكنه من العمل كقارئ أخبار في هيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي"، كما تميز وأبدع بصوته النادر في البرامج الوثائقية التي عزّز رصيدها بوثائقيات أهمها عن تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية وسلسلة "العالم في حرب" وسلسلة "من أجل البقاء" وسلسلة "الشعب المسلح"، نعم لقد رحل الوسيع مخلفاً لنا إرثاً فنياً وإعلامياً عميقاً، سيعيش في ذاكرة كل محبيه وعشاق فنه الشامل".
ويقول الفنان الممثل والمخرج فتحي كحلول إن "الوسيع كان ظاهرة إعلامية وثقافية وفنية بحضوره الطاغي وصوته الجهوري القوي المعبّر، وبحضوره المتميز على خشبة المسرح وأمام الكاميرا، وكذلك بأدواره الوظيفية كمسؤول في العديد من المجالات، وهو من تلك العلامات التي تبقى راسخة في الأذهان وتدار لها الأعناق، ولاسيما أنه كان ذا شخصية لافتة لا تمر دون أن تترك أثراً، ولعل مشاركته في فيلمي "الرسالة" و"عمر المختار" تعطيه ذلك البريق الدائم الذي سيجعله خالداً في ذاكرة الأجيال القادمة".
المصدر: الحبيب الأسود